للكاتب المبدع / حامد المالكي
كانت مسألة ذهابنا الى المعسكرات تدريب الطلبة في العطلة الصيفية محسومة، فمن لا يذهب، يُرَقّن قيده ويطرد من الجامعة، كانت تفاصيل هذه القصة عام 1988 او 1989، لا اذكر بالضبط. ففي هذا الوقت اخذونا الى معسكر النعمان الذي يقع في اطراف محافظة الموصل السليبة –الى حين- بواسطة باصات عسكرية نوع مارسيدس (اوتومارس)، كنّا نغني في الطريق كما لو كنا نذهب في رحلة ترفيهية، بعد عدة ساعات وصلنا الى صحراء، ترابها احمر دبق يشبه العجين بسبب المعادن التي تحتها كما قيل لنا. وزعونا في جملونات عملاقة كل واحد منها يتسع لاكثر من ثلاثمائة طالب-جندي، كان معسكرا عملاقا اعد لاستقبال الاسرى العراقيين اذا ما عادوا من ايران لتتم عملية اعادة تأهيلهم نفسيا وفكريا!
وزعوا علينا الثياب العسكرية، حلقوا لي شعري لاني كنت خنافس، ومثل اي جندي، توجهت الى سريري (يطغي) استلقيت بانتظار صباح الغد، اول يوم للتدريب العسكري.
كانت الجملونات التي تبتلع طلبة كلية الفنون الجميلة (كليتي) قريبة لتلك التي فيها طلبة كلية الشريعة، نحن (ندك ونرقص) بينما ابناء الشريعة يصلون او يتناقشون في امور الدين، ولانهم ينامون مبكرا، ونحن لا ننام، كانت تنتهي هذه الجيرة الغير متجانسة بحرب الحجارة، بين من آمن بالله واليوم الآخر، وبين من آمن بالفن والجمال، كما كنا نقول.
بعد عدة ايام سمعنا بخبر مرعب، فقد خرجت افعى صحراوية قاتلة من فتحة المرحاض ولدغت خصية طالب في كلية الشريعة فمات في مكانه في المرحاض، سرت هذه الشائعة سريان النار في هشيم المعسكر، اضربنا عن الحمام، لا احد يدخل الى المرحاض خوفا من تلك الافعى التي تختار اماكن خطرة لتلدغها، الاضراب تطور بعد ساعات الى همسات من نوع :"نهرب من المعسكر؟ نرجع لاهلنا؟ لا يهم حتى لو رقنوا قيودنا، ما نبقى". نمنا على قلق خاصة بعد ان لوح الطالب طالب قسم الرسم عبد الحسين هاشم جبر (ابن ابن عمي) بافعى كانت قد تسللت الى الجملون فقتلها بالحجارة، زوج = (مغفل) الي ينام في مكانه.
في الساعة الثانية فجرا سمعنا صوت طائرات هليكوبتر عسكرية تحوم فوق سماء المعسكر ثم تهبط باجلال في ساحة العرضات، بعدها سمعنا صوت آمر المعسكر مرعوبا منكسرا، خائفا، ينادي: "تجمَع، تجَمع، انهض، انهض". نهضنا وركضنا بثياب نومنا الى ساحة التدريب، وقفنا على شكل فصائل غير منتظمة، كان في وسط ساحة العرضات يقف كرش كبير بشوارب غليظة تنام على اكتافه كل نجوم الدنيا العسكرية ومن حوله مجموعة من الضباط اكثرهم تواضعا كان برتبة عقيد ركن، عرف الرجل بأسمه (نسيته الان) ثم اكمل: "انا مبعوث القيادة لكم، سمعت انكم تقومون باضراب، عن اي اضراب تتحدثون؟ اضع خواتكم على صدوركم و.... بهن"
هلعت القلوب لهذه الجرئة والوقاحة، ادرك الرجل انه تكلم كأي حيوان فاراد ان يدارك الموقف فاكمل:" كواويد، ساقطين، تريدون تفشلون (تجربة) السيد الرئيس القائد؟". هنا بعد هذا السطر، مسموح لك ان تقول ما تشاء، كانوا يطلقون على معسكرات تدريب الطلبة في العطلة الصيفية (تجربة القائد)، سمعنا في وقتها وعيدا وتهديدا لم نسمع بمثله من قبل، بعد ساعتين وجدنا انفسنا نهرول في ساحة العرضات ونحن نغني: "احنا مشينا مشينا مشينا... للحرب، عاشك يدافع من اجل محبوبته محبوبته واحنا مشينا للحرب"، قلت لعريف ابراهيم: "عريفي والي ماعنده محبوبة هم يروح للحرب". قال العريف: "انچب".
اذا سألتنا في حينها عن اجمل مكان نستأنس بوجودنا فيه، بالتاكيد سيكون جوابنا، المراحيض، مراحيض تجربة القائد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق